الرئيسية

القس يعقوب عماريدخلَتْ العذراء المُطوَّبة إلى الهيكل لأول مرة بعد ولادة ابنها يسوع المسيح لتقوم بواجب ديني حسب شريعة موسى بخصوص كل ذكر فاتح رحم  (لوقا 22:2-25). وما أن دخلت عتبات بيت الله حتى قام أحد الأتقياء المتعبدين في داخل الهيكل، وهو سمعان الشيخ، وقد حلّ عليه الروح القدس، واقترب من العذراء وهي تحمل ابنها الوليد بين يديها، ولم يكن يعرفها من قبل، ولا سمع عن ميلاد مولودها، وبإلهام من الروح القدس، أخذ الطفل من عن ذراعَي أمه، ورفع نظره إلى العلاء وصلى فقال:

 

 

"الآن تطلق عبدك يا سيد بسلام، لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب نور إعلان للأمم" (لوقا 32:2). وكانت أمه ومعها يوسف رجلها يتعجبان مما قيل فيه من إنسان لا يعرفانه.

ويخبرنا الإنجيل أن سمعان الشيخ هذا كان قد نال وعدًا من الله أنه لن يرى الموت قبل أن يحظى برؤية المسيح المنتظر - مخلص العالم.

فالمسيح بحسب نبوة هذا الشيخ الجليل هو "نور إعلان للأمم"، وهذا يتوافق مع قول المسيح عن نفسه حين نادى بين الجموع وقال: "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة" (يوحنا 12:8). وقال: "أنا قد جئت نورًا للعالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة" (يوحنا 46:12). وهذه حقيقة يدركها كل من آمن بالمسيح باختبار روحي استنار به.

 

ميزتان فريدتان في المسيح

تفرَّد المسيح بميزات كثيرة تثير العجب، وكل واحدة منها تُحيّر مَنْ لم يصل إلى علمه حقيقة هوية المسيح. نشير هنا إلى اثنتين منها:

أولاهما: ميلاده من عذراء عفيفة لم يدن منها رجل!

وثانيهما: طهره المطلق الذي لم يتّصف به غيره!

وكلا الميزتان مرتبطة الواحدة منهما بالأخرى ارتباطًا وثيقًا يشكّل حالة من التوأمة تصب في مغزىً واحدٍ يؤكّد على هوية المسيح وهدف رسالته!

 

الميزة الأولى: ميلاده من عذراء

وتزداد الحيرة لدى الباحث حين يصل إلى علمه من نصوص الوحي أن معجزة الولادة العذراوية، لم تكن معلنة للناس طيلة حياة المسيح على الأرض. فلم تتعرَّض العذراء إطلاقًا طيلة حياتها بين الناس لأيَّة تهمةٍ أو نقدٍ يشكك بسمعتها، بل عاشت حياتها مرفوعة الرأس مُعزَّزة مكرّمة، فلم يخطر ببال أحد أن يوجّه إليها إصبع الاتهام، لأن المعجزة بقيت في الكتمان طيلة نصف قرنٍ من الزمان، إلى أن أوحى الله لكتّاب الإنجيل فكُتب إنجيل متى وإنجيل لوقا، فأفصح الوحي عن تفاصيل ما جرى بكلِّ دقة (لوقا 23:3 وما يليها، ويوحنا 45:1 ويوحنا 41:6-42).

ثم على أرض الواقع، فمعارف العذراء اعتادوا أن يروا يسوع في طفولته، وخلال فترة فتوته برفقة أمه ويوسف بجانبها، فالعائلة أمامهم مكتملةٌ من أب وأم وابنهما، والمشهد طبيعي لا يدعو للشك (لاحظ لوقا 40:2–52).

وكبر يسوع وتقدَّم في الأيام، وبدأ خدمته النبوية في سن الثلاثين دون أن يتساءل أحد بخصوص قدسية أمه طيلة حياتها. فالله بحكمته أوجد يوسف في حياة العذراء، رجلًا تقيًا ليكون غطاءًا لها، درءًا للشك، لئلا يُساء إلى أطهر عذراءٍ في الوجود تستحق التكريم والتطويب. والأنثى إذا خُدش حياؤها بصورة ما، تُهان وتُعزل عن مجتمعها، والشرقيون لا يتساهلون في أمور كهذه (وهناك مثال من ذلك ورد في سفر التكوين أصحاح 34).

فبقي سر الولادة العذراوية مكتومًا إلى أن جاء الميعاد للإعلان عن المعجزة في الظرف المناسب، فلا تلوكها ألسنة الناس، فعاشت العذراء مكرّمة معزّزة بين الناس دون أن يساءَ الظنُّ بسمعتها.

ويبقى السؤال قائمًا: ما سر هذه الميزة في المسيح التي يستحيل أن تتكرَّر مع غيره؟ وفي علمنا أنَّ المعجزة لا تحصل إلا عندما تعجز الطبيعة عن القيام بحاجة ملحَّة، فيتدخّل الله بالمعجزة على غير المألوف. وعندها تتخطَّى المعجزة الحواجز الطبيعية وتصنع عجبًا. فأين عجزت الطبيعة هنا لتحول دون أن يولد المسيح من أبوين بشريين مثل باقي الناس؟

فالرجال والنساء في زمان ولادته كانوا يملأون الأرض، وكان فيهم الكثيرون من أتقياء أفاضل وتقيّات فاضلات ليُولَد المسيح من أي زوجين منهم. فماذا وراء سر ولادةٍ فاقت عجبًا، وزاد أن شهدت نبوات التوراة بمعجزة الولادة العذراوية قبل الحدث بأكثر من سبعة قرون!

ولا بُدَّ من التنويه هنا بأنّه لا يوجد تماثل ولا قواسم مشتركة للمقارنة بين خلق آدم من تراب الأرض وولادة المسيح من عذراء! ففي زمن آدم لم يكن قبله بشر ليولد منهم، ولذا كان لا بدَّ من معجزة خلق، فجبل الله ترابًا من الأرض وخلق آدم. ومن ضلع آدم صنع حواء زوجة له ليتناسلا ويتناسل البشر على مثالهما، زوج وزوجة يتوالدان وينجبان الأطفال.

أمّا في زمن المسيح فكانت الأرض مليئة بالناس ليولد المسيح من أي أبوين منهم! فلماذا استثني المسيح بولادة على غير المألوف؟ والمعجزة بقيت في سر الكتمان. فما الهدف الذي ترمي إليه؟ فالحدث بهذا الأسلوب المعجزي يحتِّم وجود سرٍّ له مغزى! فما هو؟ ومَن يا تُرى يكون هذا الكائن العجيب الذي يدعى المسيح؟ ولماذا جاء بهذه الصورة الفريدة؟

هناك حقائق مذهلة في نبوات التوراة عن المسيح، ومع ذلك فاليهودية لا تعترف بالمسيحية، لكن توراتهم التي بين أيديهم تشهد بتلك الحقائق ولا قدرة لأحد أن ينكر وجودها "فلا تبديل لكلمات الله" لأنّ الله ساهر على كلمته ليجريها (إرميا 12:1). وها هي نسخ التوراة منتشرة في جميع لغات العالم شاهدة على صدق الوحي. ومتاحف الدنيا تحوي أكثر من 25000 من رقوق ومخطوطات ووثائق أثرية تؤكد على صدق ما ورد فيها. لا يوجد كتاب آخر أيًّا كان عنوانه يحوي مثل هذا العدد الهائل من الرقوقٍ والمخطوطات الأثرية للتثبُّت من صحة محتواه.

أما المسلمون ولهم منا كل الاحترام، فهم يقرُّون بأن المسيح مولود العذراء هو "كلمة الله ألقاها إلى مريم"، وهذا يتوافق مع ما جاء في الإنجيل بأن المسيح هو "كلمة الله" نزل من السماء وغزا بحضوره الجليل أحشاء عذراء طاهرة لم يدن منها رجل. فهو بولادته الفريدة لم ينبت من الأرض بتزاوج رجل بامرأة، فانطبق عليه القول "مولود غير مخلوق". وهذا حق لأن كلمة الله لا تُخلَق بل تََْخِْلق، فهي أزلية مع الله، إذ لم يكُن الله يومًا كائنًا بغير كلمة أو إلهًا غير ناطق!

وهنا يبرز سؤالٌ يقول: طالما أن الله إله ناطق، والنطق غير مستحدث لديه، إذ أن كل ما يتعلق بالذات الإلهية أزلي معه وفيه، فالسؤال: قبل أن خلق الله الكائنات من ملائكة وبشر، مع من كان الله يمارس النطق ويتكلم؟ تساؤل أطرحه في مرمى القارئ الكريم ليتفكّر به. للمسيحية إجابة واضحة في هذا.

يقول الوحي في فاتحة إنجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله"، فبهذا النص: الله وكلمته كيان واحد منذ البدء، والبدء هو الأزل، ثم  يقول: "والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده" (يوحنا 14:1). فكلمة الله (المسيح) صار جسدًا وحلّ بيننا، وبتجسّده لم  يتغيِّر شيءٌ في طبيعته اللاهوتية. بالتجسُّد تجلَّى الله للبشرية، وخاطب الناس من وراء حجاب الجسد الذي تجلّى فيه، كما خاطب موسى من وراء حجاب شجرة وهي نبتة مرئية تلتهمها النار ولم تحترق لأن الله تجلّى فيها. وبتجلّيه في الشجرة على مرأى من موسى، بقي الله هو الله، والتجلّي لم يغيّر في طبيعة الله شيئًا. وبمعجزة التجلّي تلك، لم يحصر الله ذاته في المكان والزمان الذي تجلّى فيه.

ثمَّ رغم أنّ الشجرة عنصر مادِّي قابل للاحتراق، لكنها لم تحترق، إنما النار والشجرة حينها شكّلا معًا مشهدًا معجزيًا يثير العجب، فلا النار فقدت خواصها بالتعامل مع الشجرة، ولا الشجرة فقدت  كيانها أو تآكلت بلهيب النار التي غمرتها.

النار في ذلك المشهد العجيب تدلُّ على القدسية المطلقة لله، وظهور الله بتلك الصورة المعجزية، يدلّ على أن الله رب قدير يمكنه أن يتجلّى كما يشاء في الشجر أو في الحجر كما ظهر لموسى في جبل سيناء، أو في البشر كما ظهر في المسيح قبل ألفي عام.  فهو كلي القدرة يصنع ما يشاء.

ثم إنّ تجليه في الشجرة على مرأى من موسى حمل رسالة خلاصيَّة لشعب أسير اصطفاه لنفسه، كان مغلوبًا على أمره تحت سلطان فرعون. وبنفس المعنى حين تجلي الله في المسيح، الذي هو أفضل وأسمى من الشجر، والحجر، حمل رسالة خلاصية لأسرى الخطية المغلوب على أمرهم تحت سلطان إبليس. فقال الإنجيل: "عظيم هو سر التقوى اَلله ظهر في الجسد... كُرِز به بين الأمم، أومن به في العالم، رُفع في المجد" (1تيموثاوس 16:3).

دخل المسيح يومًا المجمع اليهودي في مدينة الناصرة في شمال فلسطين، فدُفع له سفر إشعياء ليقرأ على مسمع من المتعبدين، ففتح السفر وقرأ الكلمات التي أمامه:  "روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي  للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية".

ثم طوى السفر وسلمه للخادم وجلس، وكانت عيون الحاضرين شاخصة إليه، ثم قال مشيرًا إلى الفصل الذي قرأه: "اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم"، واستمرّ يفسر لهم كيف تنطبق عليه بالذات نبوءة إشعياء تلك، فتعجَّب الحضور من تأثير كلمات النعمة التي كانت تخرج من فمه (لوقا 16:4-33).

أسفار التوراة تزخر بالإشارات التي ترمز إلى المسيح، نستعرض منها مشهدًا ورد عن أبينا إبراهيم: إذ قال الله لإبراهيم أن يقدِّم ابنه إسحاق ذبيحة أضحية لله، وكانت تلك سابقة لا مثيل لها ولم تحصل من قبل. لكن إبراهيم الموصوف بحسن طاعته لله تقبَّل أمر الله، وبكَّر مع الفجر واصطحب ابنه معه، وأخذ اثنين من خدامه وسافر من منطقة بئر سبع في جنوب فلسطين إلى جبل المريّا شمالًا في ما يُعرَف اليوم بأورشليم - القدس.

وعندما وصل إلى قعر الجبل، ترك هناك الخادمين لحين العودة إليهما من جديد، وحمَّل الحطب اللازم للمذبح على كتفي ابنه إسحاق وسارا صعودًا إلى المكان. وبينما هما في الطريق سأله إسحاق:  يا أبي، أما جئنا لتقديم ذبيحة أضحية لله؟ وها النار والحطب بأيدينا، فأين الخروف للمحرقة يا أبي؟ فردّ إبراهيم قائلًا: "الله يرى له الخروف يا ابني" (تكوين 8:22).

ولما وصلا إلى الموقع، بنى من الحطب مذبحًا ليقدّم عليه الأضحية، ثم أمسك بابنه وحيده إسحاق (الملقب بابن الموعد) وربطه فوق الحطب، واستلَّ السكين من جنبه ورفعها فوق عنق الصبي وهَمَّ بنحره فوق المذبح! فناداه الله فورًا: "إبراهيم  إبراهيم، لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا". فرفع إبراهيم عينيه وإذا بكبش وراءه مُمسَكًا في الغابة بقرنيه، فذهب وأخذ الكبش وأصعده محرقة بدل ابنه. فمات الكبش وعاش إسحاق!

عن هذا المشهد العجيب وصف القرآن كبش إبراهيم بأنه "ذبح عظيم"!

يذكّرني هذا بزيارة لي في أحد الأعياد قام بها صديق جليل هو الشيخ سفيان، وكان حينها مفتي المنطقة التي كنا نسكنها. وأثناء تداول الأحاديث بحضور أصدقاء آخرين جاءوا معه، ورد ذكر قصة إبراهيم والكبش الذي افتدى ولده، وكان التساؤل: هل هو إسحاق أم إسماعيل، ودارت الأحاديث بكل ودٍّ ومحبة. فسألت صديقي الطيب الذكر: ما تفسيرك يا شيخنا الكريم في أن القرآن أطلق لقب العظمة على حيوان؟ فردّ الشيخ ردًّا جميلاً وقال: لأن كبش إبراهيم ذاك نزل عليه من السماء ولم يأخذه الله من أغنام الناس!

هنا أقول لقارئي الكريم أن المسيح حسب النص الصريح في الإنجيل هو "كلمة الله" النازل من السماء. فهو صار "ذبحًا عظيمًا" عن كل البشرية. وكما أخذ الكبش مكان إسحاق ومات بديلاً عنه، هكذا المسيح أخذ مكاننا ومات عنا، وبموته تحمَّل قصاص خطايانا وفدانا، وبه نلنا حياة أبدية على حساب دمه النازف على الصليب.